أعياد الميلاد من أقدم الظواهر التي رافقت الحياة على الأرض، ولكن الاحتفال بها كمناسبة سنوية هو مفهوم حديث نسبيًا. بينما يعتقد البعض أن المصريين القدماء هم أول من احتفل بهذه المناسبة، تكشف النصوص المسمارية القديمة عن أصول أقدم لهذا التقليد، مما يعيد تشكيل فهمنا لتاريخ هذه العادة التي أصبحت اليوم عالمية.
أقدم دليل على الاحتفال بأعياد الميلاد
تشير الدراسات إلى أن أول توثيق معروف للاحتفال بأعياد الميلاد جاء من مدينة “لاغش”، إحدى المدن المهمة في حضارة سومر، التي نشأت في جنوب بلاد الرافدين. وفقًا للمؤرخ فلاديمير إميليانوف من جامعة سانت بطرسبرغ، كشفت الألواح المسمارية التي تعود إلى عهد الملك لوغالاندا (2384-2378 ق.م.) عن احتفالات بذكرى ميلاد أبناء الحاكم، حيث كانت تُقام طقوس تضمنت تقديم القرابين للأجداد الراحلين. ومع ذلك، لم يكن هذا الاحتفال شائعًا بين عامة الناس، بل اقتصر على الأسرة الحاكمة، واختفى تمامًا بعد الإطاحة بلوغالاندا، مما يشير إلى أنه كان تقليدًا سياسيًا أكثر منه ثقافيًا أو اجتماعيًا.
المصريين القدماء والاحتفال بأعياد الميلاد
يُعتقد أن الفكرة الخاطئة حول احتفال المصريين القدماء بأعياد الميلاد نشأت من تفسير آية في الكتاب المقدس (سفر التكوين 40:20)، التي تذكر أن “فرعون احتفل بعيد ميلاده وأقام وليمة لخدامه”. لكن إميليانوف يؤكد أن أعياد ميلاد الفراعنة لم تُسجل في السجلات التاريخية إلا خلال العصر البطلمي (305-30 ق.م.)، مما يعني أن هذا التقليد لم يكن متجذرًا في الثقافة المصرية القديمة كما كان يُعتقد.
الفرس وطقوس الاحتفال بيوم الميلاد
لم يكن الاحتفال بعيد الميلاد شائعًا في اليونان القديمة، حيث لم يُعرف عن الإغريق اهتمامهم بهذا التقليد. غير أن المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، أشار في كتابه التواريخ إلى أن الفرس كانوا يولون أهمية كبيرة ليوم ميلادهم، معتبرين إياه أهم يوم في السنة لكل فرد. كانت الاحتفالات تشمل إعداد ولائم ضخمة مليئة باللحوم والحلويات، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي للفرد، ما يعكس تقدير الفرس لهذه المناسبة.
انتشار تقليد الاحتفال بعيد الميلاد
لم يتمكن الباحثون من تحديد متى بدأ الاحتفال السنوي بعيد الميلاد كعادة اجتماعية، ولكن الأدلة تشير إلى احتمال ظهوره بين الملوك السومريين أو الفرس. رغم ذلك، لم يتحول هذا التقليد إلى ممارسة شائعة بين الأفراد العاديين حتى أواخر الجمهورية الرومانية (509-27 ق.م.).
انتشار الاحتفال بأعياد الميلاد في روما
تشير مصادر رومانية متعددة إلى انتشار هذا التقليد في روما، حيث تضمنت مسرحية بسيدولوس التي قُدمت عام 191 ق.م. مشهدًا لاحتفال بعيد ميلاد إحدى الشخصيات. كما ورد ذكر احتفال بعيد ميلاد ابنة الخطيب الروماني شيشرون في رسالة تعود إلى عام 50 ق.م. وفي القرن الأول الميلادي، أرسلت امرأة رومانية دعوة لصديقتها لحضور حفل عيد ميلادها في حصن فيندولاندا بإنجلترا، مما يدل على ترسخ هذا التقليد في الحياة اليومية للرومان.
العصر الحديث: أهمية أعياد الميلاد
يرى المؤرخون أن انتشار الاحتفال بأعياد الميلاد جاء نتيجة تحول المجتمعات القديمة من التركيز على الجماعة إلى الاهتمام بالفرد. مع تزايد الاعتراف بالإنجازات الشخصية، بدأ ينظر إلى يوم الميلاد باعتباره محطة مهمة في حياة الإنسان، وعلامة تُحدد هويته ومكانته الاجتماعية.
أعياد الميلاد في السياقات السياسية
لم تكن أعياد الميلاد مجرد مناسبات اجتماعية، بل أصبحت أدوات سياسية في بعض العصور. ففي القرن الثامن عشر، بدأت بريطانيا تقليد الاحتفال السنوي بعيد ميلاد الملك، مما عزز الولاء للعرش. وخلال الثورة الأمريكية، تحولت أعياد الميلاد إلى ساحة مواجهة سياسية؛ حيث نظم المستعمرون جنازات وهمية في ذكرى ميلاد الملك جورج الثالث، وأعطبوا المدافع البريطانية لمنع استخدامها في الاحتفالات الملكية.
عيد ميلاد جورج واشنطن
في المقابل، أصبح عيد ميلاد جورج واشنطن رمزًا وطنيًا في الولايات المتحدة، حيث أقامت فرق موسيقية حفلات تكريمًا له أثناء الحرب. ومع توليه الرئاسة، انتشرت الاحتفالات بعيد ميلاده على نطاق واسع، حتى تم الاعتراف رسميًا بـ 22 فبراير كعطلة وطنية أمريكية عام 1879.
في النهاية
منذ أقدم الحضارات وحتى العصر الحديث، ظل الاحتفال بعيد الميلاد تقليدًا متغيرًا، حيث انتقل من كونه طقسًا نخبويًا مقتصرًا على الملوك إلى مناسبة اجتماعية يحتفل بها الناس حول العالم. وبالرغم من اختلاف طرق الاحتفال عبر الثقافات، تبقى هذه المناسبة تجسيدًا للاعتراف بالفرد وتقديرًا لمسيرته الحياتية.