عاد اسم الضاحية الجنوبية لبيروت إلى دائرة الضوء الإعلامي بعد اغتيال إسرائيل القيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر في منطقة حارة حريك، مؤخراً، علماً بأن الضاحية شهدت على مر العقود الماضية سلسلة من الأحداث الأمنية والاغتيالات.
معقل “حزب الله”
وتمتد الصاحية بين ساحل بيروت الجنوبي وبداية جبل لبنان شرق بيروت، وهي تتبع إدارياً محافظة جبل لبنان، وتتألف من عدّة بلديات وبلدات، وتكمن أهميتها الإستراتيجية في وجود مطار رفيق الحريري الدولي ضمن نطاقها. فيما تتميز بكثافة سكانية عالية، وتُعدّ معقلاً لـ”حزب الله” ومؤسساته الإعلامية والتربوية والصحية.
في الضاحية، تقع منطقة حارة حريك، التي تُعد المعقل السياسي لحزب الله، حيث تضم مقراته الأمنية والسياسية مثل مكاتب نوابه البرلمانيين ومجلس شورى الحزب. حارة حريك، التي تعتبر قلب الضاحية، تبعد خمسة كيلومترات عن بيروت وتمتد على مساحة 1.82 كيلومتر مربع، وتضم أيضاً تركزاً سكانياً كثيفاً.
وبحسب مسح إدارة الإحصاء المركزي لعام 2007 فإن 50.3% من سكانها هم من الجنوب، و24.3% من البقاع، و9.7% من بيروت، و15% من جبل لبنان، و0.7% من الشمال، و0.1% من حملة جنسية قيد الدرس. والجدير بالذكر أن سُكّان هذه المنطقة الأصليين لا يتجاوز عددهم 200 عائلة.
المربع الأمني
وتعرضت الضاحية الجنوبية لعدة عمليات اغتيال وتفجيرات، أبرزها محاولة اغتيال المرجع الشيعي الراحل محمد حسن فضل الله في عام 1985 بمنطقة بئر العبد، مروراً بمحاولة اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، صالح العاروري، وانتهاء باغتيال فؤاد شكر يوم الثلاثاء.
وبعد محاولة اغتيال فضل الله، أنشأ حزب الله جهازاً أمنياً خاصاً وأسس منطقة في الضاحية تُعرف بـ”المربع الأمني”، التي تشمل حارة حريك وبئر العبد.
وخلال حرب 2006، تعرضت الضاحية لضربات إسرائيلية مكثفة أدت إلى تدمير معظم أحيائها السكنية. وبناءً على ذلك، وضع الجيش الإسرائيلي خطة عُرفت بـ”نهج الضاحية”، والتي تتضمن استخدام “القوة المفرطة” بتنفيذ سلسلة من الضربات على الأماكن الموصوفة كمصادر تهديد، دون استثناء المنشآت المدنية أو العسكرية أو التحتية.
“نهج الضاحية”
كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، غادي آيزنكوت، أول من طبق هذا “النهج” في استراتيجيات الجيش الإسرائيلي، حيث صرح بعد انتهاء الحرب أن “ما حدث في الضاحية الجنوبية خلال حرب لبنان الثانية في 2006 هو ما سيحدث لأي قرية تُطلق منها النار على إسرائيل. سنستخدم قوة غير متكافئة، وسنتسبب بضرر ودمار بالغين”. وأضاف أن “هذا ليس مجرد توصية، بل خطة معتمدة”.
لاحقاً، توسع العقيد الإسرائيلي غابرييل سيبوني في شرح هذا المصطلح في تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي، موضحاً أنه في إطار “نهج الضاحية”، يجب استهداف القدرات العسكرية لحزب الله إلى جانب المصالح الاقتصادية والمراكز المدنية التي تدعمه.
ووصفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” لاحقاً “نهج الضاحية” بأنه “ليست مجرد تهديد من ضابط، بل خطة معتمدة رسمياً” من قبل الدولة.
لمحة تاريخية
وورد أقدم ذكر تاريخي لهذه المنطقة في مخطوطة نادرة للمؤرخ صالح بن يحيى التنوخي (توفي بعد 1453 م)، حيث ذُكر قصة امتناع سكان قرية “البرج” -المعروفة اليوم بـ”برج البراجنة”- عن دفع إقطاع الأرض لأحد الأمراء الدروز، وقتلهم “العبد” الذي بعثه لهذا الغرض ورميهم إياه في بئر يُعرف مكانه اليوم بـ”بئر العبد”.
وفي مطلع القرن العشرين برز في هذه المنطقة “رائد الحركة الاستقلالية العربية” عبد الكريم قاسم خليل الذي ترأس مؤتمر باريس الشهير عام 1913 لمناهضة السلطنة العثمانية، لكنه سرعان ما أعدم في 20 يوليو/تموز 1916 مع بعض رفاقه.
وفي مطلع خمسينيات القرن نفسه أصبحت منطقة الضاحية تربة خصبة لكل الأفكار القومية واليسارية والاشتراكية، حيث كان لبنان مسرحا تبارز عليه الرئيس كميل شمعون المتهم بتحالفه مع الغرب والزعيم جمال عبد الناصر، وكان خيار الضاحية ناصرياً بامتياز.
فيما ظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 1968 تاريخ توافد الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان، حينها انخرط العديد من أبناء الضاحية في صفوف المقاومة الفلسطينية وتحديداً حركة التحرير الفلسطينية (فتح)، معلنين تأييدهم للعمل الفدائي ضد المحتل الإسرائيلي.
إلا أن نقطة التحول البارزة كانت مع ولادة مشروع الحركة الإسلامية الشيعية في لبنان على يد موسى الصدر الذي اتخذ من إحدى بلداتها (الشياح) مقراً له، وتزامن ذلك مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.
وفي عام 1978 “غُيّب” الصدر، وصدّرت الثورة الإيرانية أفكارها إلى سُكان هذه المنطقة من الشيعة، الذين كانوا بحاجة إلى غطاء عقائدي ودعم ماديّ في ظلّ ظروف الحرب القاسية.
فيكا كانت المحطة الفاصلة في تاريخ الضاحية في صيف 1982 عند التصدّي لتقدّم الجيش الإسرائيلي من محلّة الأوزاعي الليلكي مع تشكيل تنظيم المقاومة المعروف اليوم بـ”بحزب الله”، لتبدأ فصول العلاقة الإستراتيجية بين هذا التنظيم والضاحية الجنوبية لبيروت التي أصبحت معقلاً أمنياً وسياسياً وثقافياً له، وتضم مساكن عدد من علماء الشيعة وقادة الحزب، مما جعلها هدفاً مباشراً للاعتداءات الإسرائيلية ولا سيما خلال حرب يوليو 2006.
اقرأ أيضاً: