عندما استضافت باريس دورة الألعاب الأولمبية الصيفية آخر مرة منذ 100 عام، حرص المنظمون على جمع الرياضيين تحت سقف واحد، حيث بنوا أول قرية أولمبية في التاريخ، والآن، تعود المنافسة إلى مدينة الأضواء بعد قرن، لكن المسؤولين الفرنسيين يتخذون نهجًا مختلفًا تمامًا هذه المرة.
يسعى الفرنسيون لجعل ألعاب باريس 2024 “الأكثر مسؤولية واستدامة في التاريخ”، وذلك من خلال بناء شيء يستمر لفترة طويلة بعد انتهاء فعاليات الدورة، حيث تم تصميم هذه القرية لتكون حيًا يعيش حياة جديدة بعد الأولمبياد.
وتقول جورجينا جرينون، مديرة الاستدامة في باريس 2024 إن الرياضيون سيقيمون في القرية الأولمبية هذا الصيف في أماكن ستصبح منازل أو مكاتب عمل لأشخاص آخرين بعد انتهاء الحدث، تحديدًا بعد انتهاء دورة الألعاب البارالمبية في 8 سبتمبر، سيتم تحويل القرية التي تضم 82 مبنى إلى مساحات مكتبية تستوعب 6000 عامل وشقق سكنية تسع لـ 6000 شخص.
أزمة الإسكان
يأمل الفرنسيون أن يقدم مشروع القرية الأولمبية حلاً يساهم في تخفيف أزمة الإسكان في العاصمة الفرنسية، حيث جعلت ارتفاع أسعار الفائدة والأزمة الاقتصادية وتحديات العرض من الصعب جداً شراء أو استئجار منزل.
واختار المسؤولون موقع القرية الأولمبية بهدف إنعاش بعض الضواحي الشمالية الفقيرة تاريخياً في المدينة. تقع القرية عند تقاطع ثلاث ضواحي: سان دوني، وهي منطقة متنوعة الطبقات مرتبطة منذ فترة طويلة بالجريمة وانعدام الأمن؛ وسان أوين، التي تشهد تطوراً سريعاً؛ وإيل سان دوني، الجزيرة الواقعة على نهر السين.
ويؤكد المنظمون أنه بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، سيتم تخصيص 32% من المنازل الجديدة في سان دوني وسان أوين، و48% من المنازل في إيل سان دوني للإسكان العام.
لكن هناك مخاوف من أن يدفع السكان الحاليون ثمناً باهظاً، ففي لندن، تعهد المنظمون قبل دورة الألعاب الأولمبية لعام 2012 ببناء مساكن بأسعار معقولة، إلا أن هذه الوعود لم تتحقق إلى حد كبير، ووفقاً لتقرير صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية في عام 2022، تم عرض أقل من 200 منزل من أصل 9000 منزل بُنيت داخل الحديقة الأولمبية بأرخص مستويات الإيجار الموعودة.
الطاقة المتجددة وإعادة التدوير
ستعتمد الألعاب الأولمبية بنسبة 100% على الطاقة المتجددة، حيث تم تصميم القرية بالكامل مع مراعاة الاستدامة، ولتقليل حجم البناء، قام المنظمون بتعديل العديد من الهياكل الموجودة بالفعل، بما في ذلك تحويل مصنع كهربائي قديم إلى “مركز مقيم”، واستئجار استوديوهات الأفلام في المنطقة كمرافق تدريب للرياضيين.
وتم بناء المباني الجديدة باستخدام الخشب والمواد المعاد تدويرها، مما أدى إلى خفض البصمة الكربونية بنسبة 30% لكل متر مربع.
كما أن ثلث أسطح المباني مجهزة بألواح شمسية، بينما يحتوي الثلث الآخر على حدائق لتخفيض درجة الحرارة الداخلية، بالإضافة إلى تصميم فتحات طويلة تؤدي إلى نهر السين لتشكيل أنفاق رياح تجلب الهواء النقي من النهر إلى الداخل.
وستضم القرية حوالي 3000 شقة تحتوي على 14250 سريرًا مصنوعًا من مواد قابلة لإعادة التدوير، بما في ذلك المراتب التي يمكن تعديل صلابتها عن طريق قلبها، والمقاعد المصنوعة من الورق المقوى القابلة لإعادة التدوير بسهولة بعد الألعاب الأولمبية.
الحفاظ على البرودة دون مكيفات
في إطار جهود الاستدامة للألعاب الأولمبية في باريس 2024، تم إنشاء رصيف مصنوع من الأصداف البحرية، مصمم لامتصاص المطر وتبخيره في الأيام الحارة لتبريد المارة.
كما تتميز القرية بخمسة مرشحات هواء خارجية تجريبية، تشبه المكانس الكهربائية العملاقة، مصممة لامتصاص الهواء الملوث وتصفية الجزيئات الضارة.
ويؤكد جيروم جياكوموني صانعها أنها قادرة على تنظيف “95% من الهواء من الجسيمات بجميع أحجامها”، وتنظيف ما يعادل حجم 40 حوض سباحة أولمبي في الساعة مع استهلاك قليل للطاقة.
ويعتبر نظام التبريد بالطاقة الحرارية الأرضية أحد الابتكارات الهامة في القرية، حيث يُتوقع أن يواجه الرياضيون في باريس حرارة ورطوبة شديدة.
في حين أن الطابق الأرضي فقط لبعض المباني مجهز بتكييف تقليدي، ستستخدم شقق الرياضيين نظام التبريد الحراري الأرضي، الذي يعتمد على مياه مبردة من آبار عميقة تحت الأرض لنقلها إلى أنابيب تحت أرضيات الشقق، حيث أن هذا النظام قادر على خفض درجات الحرارة الداخلية بمقدار 6 إلى 10 درجات مئوية مقارنة بالخارج، وسيتم التحكم فيه على مستوى المبنى مع إمكانية تعديل درجة الحرارة في كل شقة.
ولأن أزمة المناخ أدت إلى جعل موجات الحر أكثر تكرارًا وشدة، وهو ما يضع باريس في خطر خاص، حيث أن سكانها أكثر عرضة للوفاة بسبب الحرارة الشديدة مقارنة بأي مدينة أخرى في أوروبا، توفر القرية خيار استئجار وحدات تكييف الهواء الفردية للوفود المهتمة.
ومن جانبها شددت آن هيدالغو رئيسة بلدية باريس، على أن القرية مصممة لتجنب الحاجة إلى تكييف الهواء، وأن العلماء شيدوا المباني بطرق مستدامة تسمح بالاستغناء عن التكييف حتى في درجات الحرارة المرتفعة.
المصدر: