أدباء ورحالة ومؤرخون كثيرون قصدوا الديار المقدسة لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام، في رحلات الحج التي دونوا وكتبوا عنها وعن مقاصدها.
وعلى مدى القرون الماضية قام عدد من الرحالة بتأدية فريضة الحج من خلال رحلات متباينة على مدى الألف سنة الماضية، وحظيت هذه الرحلات بعناية خاصة من قبل أصحابها، ودار حولها الكثير من المؤلفات، الأمر الذي رصده عبد الله الحقيل المؤرخ والباحث والمؤلف الأمين العام السابق لدارة الملك عبد العزيز عبر 30 رحلة للحج بدأت أولاها منذ ألف عام، في كتابه “رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين”.
رحلة ابن جبير الأندلسي
وفي الكتاب، ذكر “الحقيل” أن الرحلة الأقدم كانت للرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه، ثم رحلة ابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة، وعبد القادر الجزائري، وغيرهم، ثم الياباني تاكيشي سوزوكي، المعروف باسم محمد صالح، قبل نحو 100 عام.
وبالنسبة لابن جبير الأندلسي فقد حج عام 578 هجرية متوجها من غرناطة إلى جدة. وقد حكى تفاصيل رحلته وحجه إلى بيت الله الحرام، ووصف عديداً من المشاهد، راسماً الطريق إلى مكة، منازله ومناهله، بوصف لافت، وتصوير دقيق، متقصياً أحوال مكة من جميع جهاتها.
ويقول: “في مساء يوم الثلاثاء الحادي عشر من ربيع الأول 578هـ، تركنا جدة متوجهين إلى مكة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا، وبعد تسجيل أسمائهم في سجل لدى قائد جدة علي بن موفق، فواصلوا السير ليلا حتى وصلوا (القرين) مع طلوع الشمس، والمسمى اليوم (بحرة)”.
ويمضي مستطرداً في وصف الكعبة والحرم والآثار، ولا يكف عن إحصائياته ومقاييسه مستعملا الشبر، فيما يصف موضع الطواف بأنه “مفروش بحجارة مبسوطة كالرخام حسنا، أما سائر الحرم فهو مفروش بالرمل الأبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة”.
ويصف حجر إسماعيل وصفاً بديعاً، ويذكر مساحاته وأقيسته، ويصف قبة زمزم، وأن البئر في وسطها، وعمقها إحدى عشرة قامة حسبما ذرع ابن جبير بنفسه. أما عمق الماء فيقول عنه: “وعمق الماء سبع قامات على ما يذكر”.
رحلة ابن بطوطة
أما ابن بطوطة فقد جاء في وصف رحلته إلى الحج عام 726هـ حديثه عن قرع الطبول إيذاناً ببدء أيام الحج. يقول: “وإذا كان أول يوم شهر ذي الحجة تضرب الطبول والدباب، في أوقات الصلوات، بكرة وعشية، إشعارا بالموسم المبارك، ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات، فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلم الناس فيها مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثامن بكر الناس بالصعود إلى منى، وأمراء مصر والشام والعراق وأعلام العلم يبيتون تلك الليلة بمنى”.
ويمضي قائلاً: “وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع، ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما، فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة، فيمرون في طريقهم بوادي محسر ويهرولون، وذلك سنة”.
أما الكعبة المشرفة، فيتحدث عنها ابن بطوطة بقوله: “وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانيين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم، ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة”.
ياباني في مكة المكرمة
وبخصوص رحلة “ياباني في مكة” أو “الحج إلى مكة المكرمة” للحاج محمد صالح (تاكيشي سوزوكي)، يشير الحقيل في كتابه إلى أن هذه الرحلة تعد نموذجا للنمط الأدبي المعروف بـ”أدب الرحلات”، علماً بأنه رافد من روافد الثقافة والمعرفة من الأدب والتاريخ، يستفيد منه كتّاب السيَر، وعلماء الجغرافيا، وعلماء الاجتماع، والتربية، وعلماء اللغة وغيرهم، إفادة كبيرة.
وهذه الرحلة التي ترجمها الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي سنة 1419هـ تضم بين ثناياها جميع أقسام الرحلات المعروفة لدى الباحثين في أدب الرحلة، فهي قبل كل شيء رحلة أدبية، وفن من فنون القول الأدبي، اعتمد فيها المؤلف، بالإضافة إلى المشاهدات العينية، على ما سمعه من أخبار، وعلى مطالعة الرحلات السابقة التي كتبها غيره.
وفي تلك الرحلة التي كانت في عام 1938 سافر تاكيشي سوزوكي إلى مكة المكرمة بالباخرة من مرفأ كوبة في اليابان وانتقل إلى مصر مرورا بقناة السويس على باخرة مصرية، ثم صوب وجهه نحو السعودية لأداء مناسك الحج والإحرام.
وبدأ المؤلف رحلته بمقدمة عن الإسلام ومبادئه، ثم بمقدمة أخرى عن الرحلة ذاتها، والظروف التي دفعته إلى القيام بها، وركز على الأمور الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، ووصف الطرق والعمران، والمرافق والظواهر المناخية، ووجه عناية خاصة للأمور الاجتماعية، فتحدث عن البشر، فئات المجتمع وطبقاته، ووضع الرجال والنساء في المجتمع، وغير ذلك، ولم تخلُ رحلته من ذكر رجال الدولة والعلماء، وعلى رأسهم مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه)، وقد أفرد فصلاً كاملا عنه.
أما في الفصل الثاني يتحدث عن وصوله إلى الجزيرة العربية، وارتدائه ملابس الإحرام، يصف لحظة ارتدائه لملابس الإحرام: “حين حانت ساعة ارتداء ملابس الإحرام، كان جميع الحجاج في سعادة غامرة، وانطلقت ألسنتهم بالتلبية والتكبير، بينما كانت دموع الفرح والسعادة تنهمر أحيانا من عيون بعضهم.. لا يمكن أن أشاهد في أي مكان آخر مثل هذه المشاعر الجياشة، والأحاسيس العميقة، والعواطف الحارة، إلا في هذا المكان، وفي تلك اللحظات بالذات.. كان الحجاج يرتدون ملابس الإحرام، لا فرق بين غني وفقير، كنا جميعا نرتدي نفس الملابس، المصنوعة من قطعتين من القماش الأبيض، ففي الحج يتساوى الجميع”.
رحلات أدباء مصريين
أما “بنت الشاطئ” فقد كتبت عن زيارتها سنة 1392 هجرية: “الناس عندما يسعون إلى البيت العتيق محرمين متطهرين خاشعين قانتين وقد تجردوا من كل زينة وجاه وزهرة، وقد طرحوا عنهم ما يتفاخرون به من أزياء وألقاب ورتب ومناصب، وتخففوا من الأثقال المادية التي تئد روح الإنسان وتخنق فيه هيامه الفطري بالحق والخير والجمال”.
ومن أبرز الأدباء الذين كتبوا عن رحلتهم للحج أحمد حسن الزيات، في مقال نشرته “مجلة الرسالة” بعنوان “في أرض الحجاز”، ربط فيه بين الحج وبين التحرر من الاستعمار، قائلاً: “إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر”.
فيما كتب الأديب إبراهيم المازنى عن رحلته عام 1930، كتاب “رحلة الحجاز”، وهو خواطر أدبية حول الحج والرحالة، كما وثق الأديب عباس محمود العقاد، رحلته إلى الحج عام 1946، في عدة مقالات، ومن بين ما كتب هو تجربة في الصعود إلى “غار حراء” والذي شهد أول نزول للقرآن الكريم.
اقرأ أيضاً: