كشف تحقيق أجرته صحيفة “الغارديان” البريطانية كيف تجسست إسرائيل على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طوال عقد تقريبًا.
وكان المدعي العام في لاهاي، كريم خان، أرسل تحذيرًا مبطنًا خلال الأيام الأخيرة حينما أعلن عن نيته لإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته، يوآف غالانت.
وحذر خان من يحاولون عرقلة عمل المحكمة أو التأثير بأي شكل من الأشكال على مسؤوليها، وهو أمر يجب أن يتوقف.
ولكن خان لم يتطرق إلى تفاصيل هذه التدخلات، ولكنه أشار إلى أن محاولة لإعاقة سير عمل المحكمة يُعد “جريمة جنائية”.
ولكن كيف راقبت إسرائيل المدعي العام؟
وفق التحقيق الذي أجرته الصحيفة والمجلات الإسرائيلية +972 و Local Call، فإن إسرائيل سخّرت وكالاتها الاستخباراتية طوال عشر سنوات تقريبًا للمراقبة والاختراق والضغط وتشويه السمعة وتهديد كبار موظفي المحكمة الجنائية الدولية لعرقلة سير التحقيقات.
وتنصتت إسرائيل على اتصالات مسؤولي المحكمة بما فيهم خان ومن تقلد المنصب من قبله، فاتو بنسودا، كما اخترقت مراسلاته الإلكترونية والوثائق.
واستمرت تلك الاختراقات حتى الأيام الأخيرة، وهو ما يفسر معرفة نتنياهو المسبقة بنوايا المدعي العام بشأنه.
وأظهرت إحدى الرسائل الخاصة بخان والتي تم اختراقها، أن محاولاته الأخيرة لإصدار أمر اعتقال بشأن قادة إسرائيليين، قوبلت بالكثير من الضغوط من قبل الولايات المتحدة.
ولم يقتصر الأمر عند خان فقط، بل إن بنسودا والتي تولت منصب المدعي العام في 2021 وافتتحت تحقيقًا أدى إلى إجراءات الأسبوع الماضي، تعرضت أيضًا للتجسس.
وحازت عمليات القرصنة الاستخباراتية الإسرائيلية على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية على تفكير نتنياهو، بل إنه أصبح “مهووسًا” بها وفق أحد مصادر الاستخبارات.
وتم توزيع جميع المعلومات التي تورط في جمعها كل من مستشاري الأمن القومي، وكالة التجسس المحلية، الشاباك، بالإضافة إلى مديرية المخابرات العسكرية، أمان، وقسم الاستخبارات الإلكترونية، الوحدة 8200، على بقية هيئات وإدارات الحكومة.
وأدار مهمة التجسس على بنسودا أحد حلفاء نتنياهو المقربين وهو يوسي كوهين، الذي كان في ذلك الوقت مديرًا لوكالة المخابرات الخارجية الإسرائيلية، الموساد.
وكشفت التحقيقات أن كوهين طل في إحدى المراحل من رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، جوزيف كابيلا، المساعدة في هذا الوقت.
إجراءات مضادة
أدارت هذا التحقيق كل من صحيفة الغارديان البريطانية والمجلة الإسرائيلية الفلسطينية +972 ومجلة نداء باللغة العبرية.
وخلال مراحل التحقيق، أُجريت مقابلات مع أكثر من 20 ضابطًا من ضباط المخابرات الإسرائيلية الحاليين والسابقين ومسؤولين حكوميين وشخصيات بارزة في المحكمة الجنائية الدولية ودبلوماسيين ومحامين مطلعين على قضية المحكمة الجنائية الدولية وجهود إسرائيل لتقويضها.
ولكن المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية قال في أحد الاتصالات مع الغارديان إن المحكمة كانت على علم مسبق بجميع الأنشطة المعادية من جانب إسرائيل، وكانت تنفذ باستمرار إجراءات مضادة ضد هذه الأنشطة.
وأكد المتحدث إن تلك المحاولات الاستخباراتية لم تنجح في الكشف عن أي معلومات سرية تخص المحكمة، وأنها تمكنت من الاحتفاظ بها في أمان.
بدوره قال المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إن الادعاءات التي تسوقها الصحيفة والمجلات عارية من الصحة، والغرض منها هو تشويه إسرائيل.
فيما قال المتحدث العسكري إن الجيش الإسرائيلي لم يُقدم على تلك الإجراءات، ولم ينفذ أي عمليات استخباراتية أو مراقبة ضد المحكمة الجنائية الدولية.
والمحكمة الجنائية مختصة منذ إنشائها في عام 2002 بمحاسبة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وأصدرت من قبل مذكرات اعتقال بشأن كل من: الرئيس السوداني السابق عمر البشير، والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، ومؤخرا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولكن المختلف هذه المرة هو أن طلب خان بإصدار مذكرة اعتقال بشأن نتنياهو غالانت وقادة حماس، يعتبر المرة الأولى التي يقوم فيها المدعي العام بخطوة مماثلة بحق زعيم حليف غربي وثيق.
واتخذت المحكمة الجنائية هذا القرار بعد الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال.
ومن شأن مذكرة الاعتقال حال صدورها أن تمنع الصادر بحقهم الأمر من دخول 124 دولة أعضاء في نظام روما الأساسي التي قامت عليه المحكمة، وإلا تعرضوا للاعتقال.
وقال مسؤول استخباراتي إسرائيلي سابق إن تلك الخطوات هي التي أثارت حفيظة السلطات الإسرائيلية ودفعتها لشن حرب على المحكمة.
وبدأت تلك “الحرب” في يناير 2015، عندما تم التأكيد على انضمام فلسطين إلى المحكمة بعد أن اعترفت بها الجمعية العامة للأمم المتحدة كدولة. وقد أدان المسؤولون الإسرائيليون انضمامها باعتباره شكلاً من أشكال “الإرهاب الدبلوماسي”.
ووصف مسؤول دفاعي سابق مطلع على الجهود التي تبذلها إسرائيل لمواجهة المحكمة الجنائية الدولية، الانضمام إلى المحكمة بأنه “خط أحمر”.
وقال إن إسرائيل ترى أنه لا مشكلة في اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين، ولكن “المحكمة الجنائية الدولية هي آلية ذات أسنان”.
يدًا بيد
وكانت بنسودا التي أنتُخبت مدعية عامة للمحكمة الجنائية في عام 2012، فتحت تحقيقًا فيما يجري في الأراضي الفلسطينية، بعد أسابيع من انضمام فلسطين إلى المحكمة في 16 يناير عام 2015.
وفي هذا الوقت تلقت بنسودا رسالة مسلمة باليد في منزلها من رجلان قالوا إنهما يحملان رسالة من سيدة تريد شكرها، وعندما فتحت وجدت رقم هاتف إسرائيلي ومئات من الدولارات.
ووقتها تم تفسير هذا الحادث على أنه محاولة إثبات أن المخابرات الإٍسرائيلية يمكن أن تصل إلى مكان إقامتها.
وعلى عكس محكمة العدل الدولية، وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة تتعامل مع المسؤولية القانونية للدول القومية، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة جنائية تحاكم الأفراد، وتستهدف أولئك الذين يعتبرون الأكثر مسؤولية عن الفظائع.
وقالت مصادر إسرائيلية متعددة إن قيادة الجيش الإسرائيلي أرادت أن تنضم المخابرات العسكرية إلى الجهود، التي تقودها وكالات تجسس أخرى، لضمان حماية كبار الضباط من الاتهامات. يتذكر أحد المصادر: “قيل لنا إن كبار الضباط يخشون قبول مناصب في الضفة الغربية لأنهم يخشون الملاحقة القضائية في لاهاي”.
وبحسب ما قالته 5 مصادر مطلعة على أنشطة المخابرات الإٍسرائيلية، إن التجسس كان يتم بصفة مستمرة على اتصالات بنسودا، خصوصًا بعد أن منعتها إسرائيل من الوصول إلى غزة والضفة الغربية.
وأدى هذا القرار إلى لجوء بنسودا إلى إجراء تحقيقاتها من خلال الهاتف، وهو ما جعل علمية التجسس أسهل.
وقالت المصادر إنه بفضل وصولهم الشامل إلى البنية التحتية للاتصالات الفلسطينية، تمكن عملاء المخابرات من التقاط المكالمات دون تثبيت برامج تجسس على أجهزة مسؤول المحكمة الجنائية الدولية.
وفي لاهاي، تم تنبيه بنسودا وكبار موظفيها من قبل مستشارين أمنيين وعبر القنوات الدبلوماسية إلى أن إسرائيل تراقب عملهم.
وبالرغم من تلك الضغوط، قرر خان السير على خطى سلفه والاستمرار في محاولات إصدار أمر الاعتقال بشأن نتنياهو وغالانت وثلاثة قادة من حماس بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
المصدر: الغارديان